تسمیة الانحطاط وصمة عار فی تاريخ الأدب العربي
٣١ أيار (مايو) ٢٠١١بقلم فرهاد ديو سالار
إن الفترة الواقعة بعد سقوط بغداد المسماة بعصر الإنحطاط مقولة هامة فی الأدب العربی، التی هی بحاجة ماسة لتكثيف الجهد العمیق والعمل والتحلیل الدقیق ?ما تستوجب إعادة الكثير من الدراسة والتمعن ولا أن نتجه اتجاهات سطحية وبعيدة عن واقع الأدب العربی والثقافة الإسلامیة؛ لأن ?ل مشروع نهضوى يجب ان يبدأ بداية صحيحة بمعلومات وبيانات لتحليل الواقع الفعلى من ثم يبدأ التغيير. وما أحوج الباحثین والدارسین إلى رؤى تحليلية عمیقة فی هذا الصدد.
ومن المفترض علینا أن نعي هذا العصر وعيا صحيحا، وأن ندرسه درسا منهجيّا أ?ادیمیا ولنناقش عناصره ولندرس مؤثراتها الإيجابية والسلبية التي تكون في أدب كل عصر وجوهره. ومن المستحسن أن نناقشه مناقشة دقيقة ودراسة عميقة؛ ليلقى الأدب العربي في هذا العصر حقه العلميّ الأكاديميّ من البحث والدراسة حتى يتبين لنا حق الأدب في هذا العصر الذی أدى دوره بشكل ممتاز؛ لأن المناقشة والبحث بالنظرة الفاحصة المدقّقة المتبصرة تلغي مثل هذا الحكم ویتبيّن لنا أن هذا العصر لیس منحطا ومنحدرا؛ بل مزدهرا ومنبهرا أیضا. علی ?ل حال نت?لم هنا عن عصر أن أدبه متهم بأنه:
سطحي المضمون دون العمق في التفكير أوجدة في الرؤية، بل يكاد يكون اجترارا لما سبق من معان، وسيطرت العجمة والركاكة على لغة الإبداع، وشاع اللحن فيها شيوعا فاضحا، وصار للعامية الشعبية نفوذ وسلطان كما لايوجد في أدبه نصوص قوية محكمة متمتعة بعناصر الخيال يمكن أن يشار إليها فتجذب النقاد والمتذوقين. لهذا العصر، أدب تقريري جافّ مباشر فلا خيال فيه ولا تحليق في تصوير المشاعر والأفكار، وإن وجد شيء من الخيال فهوتقليدي جزئي مبتذل كما أنه أدب شكلي ومبدعوه يهتمون باللفظ على حساب المعنى.
إن الأدب العربی فی هذا العصر، شغل حيزا مهمّا من تاريخ الأدب ولكنه رغم هذا الأمر الخطیر مع الأسف اتّسم بالانحطاط وهذه التسمية كوصمة عار لقّب بها. وهناك مشكلة أخرى كبيرة وهي أن معرفة الباحثين والدارسين به تناقصت جدا، بحيث كادت أن تتلاشى نهائيا حيث لم يهتم به كثير من الباحثين والمهتمين بالأدب العربي وحتى ألغي أدب هذا العصرمن المقررات والمناهج التعليمية في كثير من الجامعات؛ لقلة فهمهم عن التراث الأدبي لهذه الفترة ولا يعرفه في الغالب إلا قليل من الباحثين المتخصصين المهتمين به.
ناقش بعض الباحثين تاريخ الأدب العربی فی عصوره المختلفة، وقسّموه إلى أقسام ?ما یبدوأنه تقسیم استشراقی الذی يستلهم دورة الحضارة الغربية، وهاهي: عصر النشأة، وعصر الترجمة، وعصر الإبداع الفكري، وبعد ذلك عصر الجمود والانحطاط، ثم یلیه عصر النهضة الحدیثة الممتاز بالإبداع والإبت?ار – وطبعا المتّسم بتأثره بتكنولوجيا غربية والتغریب والرؤیة الف?ریة الغربیة-، وهم اعتبروا العصرين المملوكي والعثماني من عصور الانحطاط، كما اعتبروا أن عصر النهضة بدأ باحتلال نابليون لمصر سنة 1798للمیلاد. فهل هذا التحقيب والتصنيف صحيح وسليم؟ وما المقصود بالانحطاط والنهضة؟ وما هوالتقويم لهذين المصطلحين؟ فما أبرز مظاهر الانحطاط في رأيهم؟ إن أبرز مظاهر الانحطاط في رأيهم: جمود العقول، وقلّة الإبداع العلمي، والتكرار والاجترار في الإنتاج العلمي.. إلخ.
إن هذه الفترة غنية بأنواع الأدب ووجوهه وبنتاج الحياة الثقافية، مع أن الأسلوب العربي قد ابتلی في أثنائها مقادير متفاوتة من الركاكة بسبب عدم عناية السلاطين والأمراء بالأدب والأدباء وعدم اهتمامهم باللغة العربية كلغة رسمية ولاسيما في عصر العثمانيين الذي حلّت محلها اللغة التركية وغلبة العجمة عليها. بلغ التكلف والصناعة اللفظية مبلغا عظيما في هذه الفترة التي نتكلم عنها وجدير بالذكر أن ذلك مهداة أخريات العصر العباسي الرابع وخاصة بعد أبي العلاء المعري. وإذا هناك انحطاط أوانحدار فلا بد أن نسمّي العصر الرابع العباسي بعصر الانحطاط؛ لأن الضعف الأدبي بان في هذا العصر لاهتمام شعرائه وأدبائه بهذه المؤثرات الدخيلة في الانحطاط الأدبي.
یعتقد الد?تور عمر فروخ فی مقدمة الجزء الثالث من ?تابه تاریخ الأدب العربی: "هذه الفترة ليست قليلة الشهرة فحسب، ول?نها مظلومة أيضا إذ یسمي القسم الأخیرمنها عصر الانحطاط تسمية فيها قليل من الصواب والحق وكثير من الخطأ والباطل. ويجد القارئ شرح جوانب من هذه التسمية الخاطئة الظالمة في مقدمات فصول مختلفة من هذا الجزء".
مع أن هذا الأدب الذي نريد أن نتكلم عنه يشغل حيزا مهمّا من تاريخ الأدب العربي؛ لكنه مع الأسف اتّسم بالانحطاط في العصور الوسطى الإسلامية. وتناقصت معرفتنا بهذا الأدب شيئا فشيئا حتى تكاد تتلاشى نهائيا حيث لم يهتم به كثير من الباحثين والمهتمين بالأدب العربي وحتى ألغيت هذه الفترة من المقررات والمناهج التعليمية في بعض الجامعات العربية، والتراث الشعري والنثري لهذه الفترة ولا يعرفه في الغالب إلا قليل من الباحثين المتخصصين.
ولكن هناك سؤال وهو: هل يصح أن يتهم أدب أمة بالانحطاط؟ وكيف يمكن أن يكون أدب منحطا؛ مع أنه يلبي برغبات أهله الذين اهتموا به وتداولوه وفي النهاية أوصلوه إلينا؟ وهل يمكن أن نسميه منحطا وهوابن البيئة؟ أوهل يمكن أن نسميه منحطا ويعكس جميع المؤثرات بصورة كاملة؟ وهل یستحق هذا العصر هذه التسمیات؟
إن الخطأ الحاقد في التسمية والتهمة المشؤومة على أدب مرحلة حاسمة في تاريخ الأدب العربي والإسلامي؛ لأن المعنى المُكتسَب بالإضافة إلى عصرالانحطاط أوعصر الانحدار هوالذي وصم الأدب بهذه الوصمة. ?یف يمكن لأدب أمة أن يتجزأ، مع أن التصاقه بالأمة كالتصاق الأبناء بالآباء، فهي نسبة لا تزول إلا بزوال الأمة. والمفروض أن الأدب الجيد يفرض نفسه في كل عصر ويسلم من صروف الأيام وحدثان الدهر؛ لأنه جيد قوي، ومن ملامح قدرته وجودته أنه حُفِظَ واحتفظ بمكانته حتى بلغ زماننا هذا؛ فمن الجفاء أن نتصفه بالضعف أووصف الانحطاط والانحدار، ولا يجوز إهماله؛ لأنه قطعة من تاريخ الأمة الإسلامية الحاسم، الأمة التي قاومت الأعداء الغربيين الإفرنج والتتار المتوحش وكانت ناجحة في هذه المقاومة الصامدة.
على كل حال، نلاحظ في هذا العهد مصطلحات أوتسميات التي استحدثت أوأطلقت عليه، فيطرق آذاننا. في تاريخ صراع الشرق والغرب نُعتت تارة بأدب عصور الانحطاط والانحدار، ومنهم من سماه بـعصر العثمانيين، وآخر ادعى بأنه العصر التركي، بينما البعض الآخر وصفه بـعصر المملوكي والمماليك، وهناك من يطلق عليه عصر التتر أوالعصر المغولي، وتارة سمّي باسم أدب الدول المتتابعة وتارة باسم أدب العصور الوسطى الإسلامية، قياسا على عصور أوروبا الوسيطة التي سبقت عصور الأنوار، علما بأن كثيرا من المؤرخين قسموا عصور الانحطاط إلى دورين: * الدور المملوكي الذي يبتدئ من سنة 648ه* . وهم سلالتان: الأولی الممالیك البحریة والثانیة الممالیك البرجیة أوالشرا?سة. * الدور العثماني حينما استولى العثمانيون على القاهرة سنة 923ه* .
علی ?ل حال؛ لا يهمنا هذه المسمّيات. وإنما الذي يهمنا هوأن ما عرف في تاريخ الأدب العربي بعصر الانحطاط، هي تسمية جائرة على هذا العصرالمهم الزاخر في شتى المجالات وإن كان هناك بعض ركاكة وسخف في مجال الشعر والنثر بسبب غلبة العجمة عليه وهدم ودمار وتقتيل وتحريق. هذه التسميات مهما تعددت؛ فهي لن تغير من حقيقة وجوهر ذلك الأدب شيئا لمن عرفه على حقيقته ووضعه في إطاره التاريخي الصحيح، وإنما كان القصد محاولة إعادة الاعتبار لتلك المرحلة المهمة في تاريخ الأدب العربي التي كثيرا ما يُقفز عنها في المناهج والمقررات التعليمية ولم يهتم به المؤرخون والنقاد مع الأسف ولونبّه بعضهم إلى ذلك، وهنا لابد من تحية جهودهم التي بُذلت في سبيل تحقيق ودراسة وإخراج هذا الجانب المهم من أدب وتراث تلك المرحلة إلى حيز الوجود. واجهت الأمة الإسلامية في هذا العصر موجات ثلاثا من الغزو:
- موجة الغزوالصليبي.
- موجة الغزوالمغولي الأولى بقيادة هولاكو، التي انتهت بسقوط بغداد، ثم غزت مصر والشام، لولا هزيمتها في عين جالوت.
- الموجة الثالثة هي موجة الغزوالمغولي الثانية، وقائدها تيمورلنْك من سلالة جنكيزخان، الذي قام بتخريب غالب مدن العراق بعد أن خرّب كثيرا من مدن فارس وأحرقها، كما خرّب حلب وأحرق دمشق وكان هذه الموجات من الخارج على الأراضي الإسلامية وزد على ذلك، اغتشاشات واضطرابات ومنافسات الأمراء والسلاطين داخل الأراضي الإسلامية مع الأسف، وكان له تأثير هام على هذه الفوضى من الناحية السياسية والثقافية والفكرية وبالتالي عدم الاهتمام بالأدب وأدّى إلى ضعفه. وقد كان لهذه الموجات الثلاث صداها البعيد في الأدب شعره ونثره.
ومن المفترض أنّ الأدب أن يعبر عن الأمة وأحوالها، وكذلك لابد للأدب أن يكون ابن البيئة كما يعتقده النقاد ومؤرخوالأدب، فمن الطبيعي أن يتراجع عما كان عليه من ازدهار أيام تقدم الأمة العربية وتطورها في مختلف مجالات الحياة. لقد أطلق على الفترة التي تلت سقوط بغداد بالفترة المظلمة، وهذه التسمية تعد ظلما وجناية؛ لأنه ليس من المناسب أن نصف فترة أنها مظلمة مع أنها كانت تتميز بمقاومة المحتلين والتصدي لهم. بل علی ع?س ذلك، هذه فترة متصفة بالحماسة والبسالة والبطولة أمام نير الأجانب من الإفرنج والمغول وحث الشعب على المقاومة، وهكذا انعكس هذا العصر في دواوين شعراء هذه الفترة المظلمة؛ فلا يصح أن نطلق وصف الانحطاط على أدب تلك الفترة، ولوأننا نعتقد أيضا قد ضعف وتراجع عن تلك القوة التي تميز بها شعر العصر العباسي، ولذلك العصر مؤثراته الخاصة ولهذا العصر مؤثراته المختصة به. ولويستشهد البعض ببعض الكتب الموجودة في هذا العصر ليبيّنوا مدى السخف والتفاهة في هذا العصر؛ ولكن هذه الآثار دلائل وثيقة التي تعكس حياة ذلك العصر بكل مرارتها ومشاقها في شتى مجالاتها وهذا هومهمة الأدب الذي قام بها أدب ذلك العصر الذي يسمونه الانحطاط وليس وصمة عار عليه.
هذا عصر اعتنى الشعراء والأدباء فيه بالقضايا الشعبية العامة، إمّا بالإنشاد أوبالكتابة وذلك كان ضروريا في هذه الفترة الحاسمة ومن ميزاته الابتكار والإبداع بلا تقليد وتكلف وانعكاس واقع الحياة. كما لابد أن يذكر بأن الكتابة في هذه الأشياء بحاجة ماسة إلى الدربة والخبرة، وإذا لم يتمتع الكاتب أوالشاعر بهذه الموهبة يقع في التكلف والتصنع كما نراه جليا واضحا في النواحي المختلفة من أدب هذا العصر الذي وقعوا فيه دون أي ابتكار وأدى إلى الضعف والركاكة والإسفاف. إذن ليس هذا ضعف على المهتمين بها في هذا العهد، الذي يعتبره البعض بل نرى عكس ذلك في هذه الناحية كانوا أقوياء جدا؛ لأنهم أحسوا حاجتهم الماسة الملحة بها.
يتبع