مصطفى بن الحاج مشرف قسم
عدد الرسائل : 1284 العمر : 60 نقاط : 3594 تاريخ التسجيل : 26/09/2008
| موضوع: حكيمان والشاعر البحتري الجمعة فبراير 26 2010, 13:07 | |
| حكيمان والشاعر البحتري بقلم أسامة عبد المالك عثمان
مَن مِن ذواقة الشعر لم يُدْمن شعر أبي الطيب، بما ينطوي عليه من حكمة بالغة، ولغة صقيلة، وسَيْرُورة شعرية، لا يكاد يدانيه فيها شاعر على مر عصور الأدب العربي؟! لقد ملأ الدنيا، وشغل الناس، وما زال، فلمَ حظي المتنبي بتلك المنزلة؟ ولم خَلَد شعره هذا الخلود؟ أَلِكونه مشحونا بالمعنى، إلى أبعد حد، على رأي الشاعر والناقد الأمريكي إزرا باوند؟ إذ رأى أنّ (الأدب العظيم ببساطة، لغةٌ مشحونة بالمعنى، إلى أعلى درجة ممكنة). أم لكونه شاعرا رائيا، يحاكي المعاني الإنسانية الدائمة، ويحاول اكتناه أزمة الإنسان في هذا الوجود؟ لقد خلب ألبابَ العامة والخاصة قديما وحديثا، وأما القديم فغنيٌّ عن الإفاضة؛ إذ سُودت في شعره ألوف الصفحات، وشرح ديوانَه كبارُ العلماء والشعراء، من أمثال ابن جني العالم والفيلسوف اللغوي الشهير، ومن الشعراء أبو العلاء المعري الذي أطلق على شرحه اسم (معجز أحمد) وهو اسم الشاعر الذي غطى عليه لقبُه، وكنيته! وفي العصر الحديث ما زال العامة والخاصة والنقاد والشعراء يحتفلون بأبي الطيب أيما احتفال، ويتناصُّون مع شعره، ويقدرونه عاليا، حتى إن الشاعر محمود درويش قد بلغ به الإعجاب بشعر أبي الطيب أن قال: "إن المتنبي أعظم شاعر في تاريخ اللغة العربية، وهو كما يبدو لي تلخيص كل الشعر العربي الذي سبقه، وتأسيس لكل ما لحقه".أنا كل ما أردت أن أقوله قاله هو في نصف بيت: على قلق كأن الريح تحتي" وليس هنا مقام الإفاضة في عرض أشعاره، ففي ديوانه مغنى عن ذلك، ولكن اقرأ قوله: وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى وهو من قصيدته المشهورة التي يمدح فيها سيفَ الدولة الحمْداني، وهي من أعذب قصائده، وأغناها بالحكمة، ومطلعها: لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْ دَهْرِهِ مَا تَعَوَّدَا وَعَاداتُ سَيْفِ الدَوْلَةِ الطَّعْنُ فِي العِدَا والبيتُ يخبر عن معنى دقيق، خلاصتُه أنّ الأفعال لا تُمدح أو تُذم مجردةً عن ظروفها وملابساتها؛ فلِلشدة مواطنُها التي لا ينفع فيها الرفقُ واللين، والعكس صحيحٌ أيضاً. وكما اشتهر المتنبي بالحكمة التي طبعت ديوانه، ومطالع قصائده، كذلك كان أبو تمام الذي عُرف بالغوص على المعاني، واستقصائها، والتجديد فيها، إلا أنه لم ينل من المكانة مثل التي نالها المتنبي، ولربما عابوا عليه كثرة تعقيداته اللغوية، وصعوبة تراكيبه، وولعه بالبديع، والاستعارات التي لا يقبلها الذوق العربي. ومن جميل شعره قوله: نَقِّل فؤادَكَ حيثُ شئتَ مِن الهوى ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ كَمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلُفُهُ الفتى وحنينُه أبداً لأولِ مَنزلِ ومن حِكَمه قوله: بَصُرتَ بالراحةِ الكبرى فلمْ ترَها تُنالُ إلاّ على جسرٍ منِ التعبِ وكذا قوله: وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ طُويتْ أَتاحَ لها لسانَ حسودِ وأما البحتري، تلميذُ أبي تمام فهو الشاعرُ، في رأي المتنبي؛ إذ قال عن نفسه وعن أبي تمام: (حكيمان والشاعر البحتري)، ويُنسب هذا القول إلى حكيم المعرَّة، أبو العلاء حين سئل عن أبي تمام والبحتري والمتنبي. فالبحتري قويُّ الطبع، سَلِسُ العبارة، وفي شعره مَاويّةٌ، وعذوبة، وموسيقى تتغلغل في جمله الشعرية، وقد لخص ابن الأثير هذا في قولهوأما أبو عبادة، البحتري، فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغَنَّى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق). وليس هذا بمستغرب على شاعر بدوي النشأة، وفاقا لرأي الناقد محمد مندور الذي بين أن الشعر يكون أقرب بقدر قرب قائله من سذاجة البداوة، وأنه من الثابت لدى معظم النقاد أن خير أشعار الشعوب هو ما قالته أيام بداوتها الأولى ولك أن تطرب بقصيدته التي يصف فيها إيوان كسرى، ومطلعها: صُنْتُ نَفْسِي عمَّا يُدَنِّسُ نَفْسِي وترفَّعْتُ عن جَدا كلِّ جِبْسِ وإنك لا تعدم في أبياته أشعارا يكثر الاستشهاد بها، كما في قوله: إذا احْتَربَتْ يوماً ففاضتْ دماؤُها تذكرتِ القُرْبى ففاضتْ دموعُها فمَنْ مِن الشعراء أشعر؟ ذلك يعود إلى الزاوية التي تنظر منها إلى الشعر، وإلى الذائقة الشعرية لديك؛ فإن كنت ممن يستهويه المعنى، فأبو تمام الشاعر، وإن كنت من طلاب الطرب فشاعرك البحتري، وإن كنت ممن تأسرك الحكمة، والعظمة والفخامة، في الأسلوب، وفي الصورة؛ فلا شاعر إلا المتنبي! "البُحتُرِيّ" شاعر السلاسل الذهبية
هو أحد الشعراء المشهورين بالعصر العباسي، اسمه كاملاً الوليد بن عبيد بن يحيي الطائي أبو عبادة البحتري، يقال عن شعره " سلاسل الذهب" وذلك نظراً لجودته، كان البحتري واحد من ثلاثة من أشهر شعراء العصر العباسي وهم المتنبي وأبو تمام والبحتري. سئل أبي العلاء المعري ذات يوم عن أي من الثلاثة السابقين أشعر من غيره في الشعر فكان رده " أن المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر هو البحتري". النشأة ولد البحتري عام 206هـ - 821م بمنبج بالقرب من حلب وتلقى فيها علومه في الدين واللغة والأدب، والبحتري يمني قحطاني من ناحية أبيه وعدناني من ناحية أمه، عشق الشعر وعمل على تدعيم هذا العشق بحفظ أشعار الأقدمين والتدرب على النظم الجيد للقصائد الشعرية. وإمعاناً في صقل موهبته الشعرية رحل البحتري إلى حمص حيث كان أبو تمام فقام بعرض شعره عليه وتقرب إليه ليتعلم منه وكانت من نصائح أبو تمام إليه أن قال له: " يا أبا عبادة، تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم .. فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وخلق الأشواق، ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد، فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه". انتقل البحتري بعد ذلك إلى بغداد واتصل بعدد من الشعراء مثل دعبل الخزاعي، ابن الرومي، علي بن الجهم، ابن المعتز، ابن الزيات، ابن طاهر. حياته يقال عن البحتري انه نشأ فقيراً وتوفى غنياً وذلك نظراً لكونه مثل باقي شعراء عصره سعى للتكسب بشعره فقام بمدح الخلفاء والوزراء وغيرهم فأفتتح شعره بالغزل وأدخل به الحكمة والعاطفة والفخر والوصف، كما عمل على تسجيل الأحداث المختلفة من خلال قصائده الشعرية. كان أول الخلفاء الذي اتصل بهم البحتري بالعراق الخليفة المتوكل فقام بمرافقته ومدحه في كل مناسبة وعمد إلى تسجيل مآثره وذلك على مدى خمسة عشر عاماً قضاها البحتري في رعاية المتوكل، مما قاله في مدحه: يا اِبنَ عَمِّ النَبِيِّ حَقّاً وَيا أَزكى قُرَيشٍ نَفساً وَديناً iiوَعِرضا بِنتَ بِالفَضلِ وَالعُلُوِّ iiفَأَصبَحتَ سَماءً وَأَصبَحَ الناسُ iiأَرضا وَأَرى المَجدَ بَينَ عارِفَةٍ iiمِنكَ تُرَجّى وَعَزمَةٍ مِنكَ iiتُمضى
وحينما قام المتوكل بتولية أولاده الثلاثة ولاية العهد قال: حاطَ الرَعِيَّةَ حينَ ناطَ iiأُمورُها بِثَلاثَةٍ بَكَروا وُلاةَ iiعُهودِ قُدّامَهُم نورُ النَبِيِّ وَخَلفَهُم هَديُ الإِمامِ القائِمِ iiالمَحمودِ لَن يَجهَلَ الساري المَحَجَّةَ بَعدَ ما رُفِعَت لَنا مِنهُم بُدورُ iiسُعودُ
كما اتصل البحتري بمستشار المتوكل ونديمه الفتح بن خاقان فمدحه فقال في وصف واقعة لابن خاقان قام فيها بمبارزة أسد فَلَم أَرَ ضِرغامَينِ أَصدَقَ iiمِنكُما عِراكاً إِذا الهَيّابَةُ النِكسُ iiكَذَّبا هِزَبرٌ مَشى يَبغي هِزَبراً وَأَغلَبٌ مِنَ القَومِ يَغشى باسِلَ الوَجهِ أَغلَبا أَدَلَّ بِشَغبٍ ثُمَّ هالَتهُ iiصَولَةٌ رَآكَ لَها أَمضى جَناناً iiوَأَشغَبا فَأَحجَمَ لَمّا لَم يَجِد فيكَ مَطمَعاً وَأَقدَمَ لَمّا لَم يَجِد عَنكَ iiمَهرَبا
تألم البحتري كثيراً بمقتل المتوكل وعزف عن قول الشعر فترة من الزمن، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إليه فقام بمدح المنتصر ثم المستعين والمعتز من بعدهم، ولكن لم تكن له بهم نفس الصلة القوية التي كانت مع المتوكل، مما قاله في مدح المنتصر: وَبَحرٌ يَمُدُّ الراغِبونَ iiعُيونَهُم إِلى ظاهِرِ المَعروفِ فيهِم iiجَزيلِهِ تَرى الأَرضَ تُسقى غَيثَها بِمُرورِهِ عَلَيها وَتُكسى نَبتَها iiبِنُخولِهِ أَتى مِن بِلادِ الغَربِ في عَدَدِ iiالنَقا نَقا الرَملِ مِن فُرسانِهِ iiوَخُيولِهِ فَأَسفَرَ وَجهُ الشَرقِ حَتّى كَأَنَّما تَبَلَّجَ فيهِ البَدرُ بَعدَ iiأُفولِهِ
وقد قام البحتري بهجاء المستعين بعد أن نزل عن عرش الخلافة وصعد المعتز ليتولى الخلافة بدلاً منه، وقد عاش البحتري في عصر المعتز في سعة من المال ورفاهية في العيش. أسلوبه الشعري تناول البحتري في شعره المدح والرثاء والغزل والحكمة وإن برع في الوصف، فقد تمكن من أدوات التصوير والوصف واستعان بالألفاظ المعبرة والمصورة لكل ما يراه ويحسه. هَذي الرِياضُ بَدا لِطَرفِكَ iiنَورُها فَأَرَتكَ أَحسَنَ مِن رِياطِ السُندُسِ يَنشُرنَ وَشياً مُذهَباً iiوَمُدَبَّجاً وَمَطارِفاً نُسِجَت لِغَيرِ المَلبَسِ وَأَرَتكَ كافوراً وَتِبراً iiمُشرِقاً في قائِمِ مِثلِ الزُمُرُّدِ iiأَملَسِ مُتَمايِلَ الأَعناقِ في iiحَرَكاتِهِ كَسَلَ النَعيمِ وَفَترَةَ iiالمُتَنَفِّسِ مُتَحَلِّياً مِن كُلِّ حُسنٍ iiمونِقٍ مُتَنَفِّساً بِالمِسكِ أَيَّ iiتَنَفُّسِ
قال في الربيع أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن iiيَتَكَلَّما وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما يُفَتِّقُها بَردُ النَدى iiفَكَأَنَّهُ يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ iiلِباسُهُ عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً iiمُنَمنَما أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ iiبَشاشَةً وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ iiمُحرَما
تأثر البحتري كثيراً بشعر الكثير من الشعراء الكبار وعلى رأسهم أبو تمام الذي أخذ الكثير من أقواله، ولكنه لم يأخذ الحكمة في أغراض شعره ولا قام بصبغه بصبغة فلسفية، وقد اعتنى البحتري بانتقاء ألفاظه فتجنب المعقد منها والغريب، وقد كان من أفضل شعراء عصره في المدح لذلك حصد الكثير من الجوائز والعطايا من الخلفاء والملوك. من قصائده الشهيرة القصيدة السينية والتي قالها عندما قام بزيارة إيوان كسرى، فأسترجع فيها حضارة الفرس في وصفه لهذه الدولة التي كانت بها قوة عظيمة ثم اضمحلت فقال فيها: صُـــنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي وَتَرَفَّعــــــــــتُ عَن جَدا كُلِّ iiجِبسِ وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني iiالدَهـر التِماساً مــــــــــِنهُ لِتَعسي وَنَكسي بُلَغٌ مِن صُبابَةِ العَيشِ عِـــــندي طَفَّفَتها الأَيّـــــــــــامُ تَطفيفَ iiبَخسِ وَبَعيدٌ مابَينَ وارِدِ iiرِفَـــــــــــــــهٍ عَلَلٍ شُـــــــربُهُ وَوارِدِ iiخِـــــــمسِ وَكَأَنَّ الزَمانَ أَصبَحَ iiمَحــــــمولاً هَواهُ مَـــــــعَ الأَخَسِّ iiالأَخَــــــــسِّ لَو تَراهُ عَلِمتَ أَنَّ iiاللـــــــــــَيالي جَعَلَت فيهِ مَأتَماً بَعدَ iiعُــــــــــرسِ وَهوَ يُنبيكَ عَن عَجائِبِ iiقَـــــــومٍ لا يُشابُ الـــــــبَيانُ فيهِم بِلَــــبسِ وَإِذا ما رَأَيتَ صورَةَ iiأَنطـــــاكِيَّة اِرتَعـــــــتَ بَينَ رومٍ iiوَفُـــــــــرسِ وَالمَنايا مَواثِلٌ وَأَنوشَــــــــروان يُزجي الصُفوفَ تَحتَ iiالدِرَفــــــسِ في اِخضِرارٍ مِنَ اللِباسِ iiعـــــَلى أَصفَرَ يَختالُ في صَبيـــــغَةِ iiوَرسِ وَعِراكُ الرِجالِ بَينَ iiيَــــــــــــدَيهِ في خُفوتٍ مِنهُم وَإِغمـاضِ iiجَرسِ مِن مُشيحٍ يَهوى بِعامِلِ iiرُمـــــحٍ وَمُليحٍ مِــــــــنَ السِنانِ بِتُـــــرسِ
الوفاة توفى البحتري بمنبج عام 284هـ - 897م، بعد أن ترك ديوان ضخم، وكتاب الحماسة على مثال حماسة أبي تمام قام فيه باختيار الشعر من ستمائة شاعر أكثرهم من الجاهليين والمخضرمين، وجعله في ثلاثة أبواب واحد للحماسة والثاني للأدب والثالث للرثاء، ويشترك أبو تمام والبحتري في الكثير من الشعراء الذين رويا عنهم. لبـحتري شاعر من العصر العباسي الثاني اسمه الوليد بن عبد الله وكنيته أبو عبادة، ولقبه البحتري نسبة إلى جده بحتر من قبيلة طيء.
ولد سنة (821 م- 205 هـ)، في بلدة منبج من أعمال حلب، وفيها نشأ وترعرع متلقيا علومه الأولى، آخذا إلى البادية صفاء اللغة وصحة الراوية الشعرية وملكة البلاغة.
ترك بلده في مطلع شبابه وذهب إلى حلب حيث أحب علوة الحلبية المغنية التي ذكرها كثيرا في شعره. ومن حلب اتجه إلى حمص حيث لقي أبا تمام فتتلمذ عليه في الشعر دون أن يتأثر بنزعته إلى الفلسفة والمنطق.
ولما أتقن صناعة الشعر، ذهب إلى العراق فكان موطن شهرته، وفيه اتصل بالخلفاء والوزراء وعظماء القوم. وقد لازم المتوكل وأصبح شاعر بلاطه، فأحبه كما أحبه وزيره الفتح بن خاقان، فكان ينادمهما في مجالس أنسهما. قتل المتوكل والفتح وكان البحتري حاضرا فرثى الخليفة في قصيدته المشهورة عبر بها عن عاطفته الجياشة الصادقة.
قفل عائدا إلى وطنه، ولكنه حنّ إلى العراق ثانية، فعاد إليه واتصل بالخلفاء، ثم رجع آخر خلافة المعتمد إلى منبج حيث مات سنة 897 م.
فأما فتنته بجمال بلاده فيدل عليها قوله :
حنَّتْ رِكابي بالعراقِ وشاقنى 00000 في ناجر بَرْد الشام وريفها
وقوله :
ذكَّرْتنا بَرْد الشام وعيشنا 00000 بين القباب البيض والهضبات
وأما ما يدل على أن الشام مسكن هواه فقوله :
وقد حاولتُ أن تَخِد المطايا 0000 إلى حيّ على حلب حُلول
ولو أنى ملكت إليك عزمي 000 وصلتُ النص فيها بالذميل
وقوله :
جفوتُ الشامَ مَرْتبعي وأنسي 000 وعلوَةُ خُلتي وهوى فؤادي
وأما كرم محتده وعراقة مجده ففي قوله :
جَدِّي الذي رفع الأذان بمنبج 000 وأقام فيها قِبلة الصلوات
مبلغ الحقيقة في دعاوى البحتري
والحق أن للخيال الشعري والدعوة الكاذبة من الشعراء أثراً في بعض تلك الحقائق التي أحب البحتري أن يلزمنا الاعتراف بها . فقد أرانا أنه كان في بلاده في أرغد عيش وأكرم منزلة ، حتى لقد جعل ذلك مضرب المثل في قوله لأبي نَهْشَل مادحاً شاكراً :
لا أنسَيْنْ زمناً لديك مهذبا 0000 وظلالَ عيش كان عندك سَجْسَج
في نِعْمَةٍ أُوطِنْتُها فأقمت في 000000 أفيائها فكأنني في منبج
ويقول في قصيدته في وصف إيوان كسرى :
واشتر أبي العراقَ خُطَّةُ غَبْنٍ 0000 بعد بيعي الشام بيْعة وِكْس
وليس أحد يعقل أن البحتري كان في مَنْبِج في أرفه ومن عيشه بالعراق ، وقد اقتنى المال الكثير ، وصار يركب في جملة من عبيده ، واتخذ قهارِمَة وكتابا ، وخلف لأنبائه ثروة جعلتهم إلى زمن بعيد من الرؤساء والسادة المذكورين . هل يعقل أن يكون شأن البحتري في مَنْبِج كما وصف ، وقد ذُكر أنه كان يتنقل في أسواقها ويمدح باعة الباذنجان والبصل ؟ فهب أن انطباعه على قول الشعر جعله يتحدر من فمه ، ولكن الشرف وسمو المكانة كما يزعم كان جديراً أن يجعل موضوع شعره شيئاً غير مدح الباعة ، وهل يمدحهم إلا من يطمع في شيء من دراهمهم أو مما يبيعونه غالباً .
وإذا قيس الغائب بالشاهد حكمنا بأن علْوة هذه عروس من عرائس الشعر لم يدَّعِ البحتري عشقها إلا ليصبغ خياله بلون الحقيقة ، حتى يستطرفه سامعوه .
ولعل صبابته بها وتحرُّقه عليها كانا كصبابته بغلامه «نسيم» الذي باعه يوماً فاشتراه إبراهيم بن الحسن بن سهل ، فأكثر البحتري من الأسف عليه وإظهاره اللهفة والحسرة إلى فقده ، حتى رده إليه إشفاقاً عليه . ثم باعه ، فأعاد السيرة في الحنين إليه وهكذا . فجعل من كذب غرامه بغلامه وسيلة للحصول على المال .
اتصال البحتري بأبي تمام
سمع البحتري بشاعر عظيم القدر نابه الشأن أخمل شعراء عصره وحرمهم العطاء طول مدته ، ذلك هو أبو تمام الطائي وقد كان بحِمْص ، دخلها في جولة من جولاته التي ذرع بها المملكة الإسلامية شرقاً وغرباً فقصده ليعرض عليه شعره في جملة الشعراء الذين جعلوا من أبي تمام حَكَما يرجعون إليه ، كما كان النابغة الذبياني بين أهل الجاهلية . فلما سمع أبو تمام من البحتري أقبل عليه من بين سائر من حضر واستبقاه بعد انصرافهم . فلما تفرقوا عنه فقال له : أنت أشعر من أنشدني ، فكيف حالك ؟ فشكا إليه الخلَّة . فكتب إلى أهل مَعَرَّة النُّعمان ( يصل كتابي هذا على يد الوليد بن عُبيد الله الطائي وهو على بذاذته شاعر فأكرموه ) وسلمه البطاقة وأمره أن يمدحهم فأكرموه بهذه الوصية ، ووظّفوا له أربعة آلاف درهم فكان ذلك أول مال أصابه البحتري كما يقول .
وقد ذكر صاحب الأغاني راوي هذا الحديث ، حديثاً آخر في أول اجتماع كان بين أبي تمام والبحتري . قال محدثاً عن لسان البحتري :
أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي :
أأفاق صب من هوى فأفيقا 0000 أو خان عهداً أو أطاع شفيقاً
فسر بها أبو سعيد وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس تكاد تمس ركبته ركبة أبي سعيد . فقال يا فتى : أما تستحي مني !!؟ هذا شعري وإنما تنتحله ، وتنشده بحضرتي . قال أبو سعيد أحقاً ؟ قال : نعم . ثم اندفع فأنشد أكثر القصيدة ، حتى شككني في نفسي . فجعلت أحلف له بكل مُحْرِجة من الأيمان أن الشعر لي ما سبقني إليه أحد ولا سمعته منه ولا انتحلته . فلم ينفع ذلك شيئاً . فأطرق أبو سعيد ، وفَظِع بي حتى تمنيت أني سُخت في الأرض . فقمت أجر رجليّ فما هو إلا أن بلغت الباب حتى خرج الغلمان فردوني فأقبل على الرجل (الذي ادعى أن الشعر له) فقال : الشعر لك يا بني والله ما قلته قط ولا سمعته إلا منك . قال ثم دعاني (هو أبو تمام) وضمني إليه وعانقني وأقبل يقرظني ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به .
منقول بتصرف
| |
|
admin المـديـر العـــام
عدد الرسائل : 5117 العمر : 57 نقاط : 12013 تاريخ التسجيل : 03/08/2008
| موضوع: رد: حكيمان والشاعر البحتري الجمعة فبراير 26 2010, 19:00 | |
| | |
|