المذهب الكلاسيكي
إعداد: الوسائط الثقافية للنشر الإلكتروني
قبل الدخول في الحديث عن المذهب الكلاسيكي في الغرب لا بد من أن نشير إلى أننا سنتناول في هذا المقال وفي المقالات التي ستليه الموضوعات التالية:
1 - التعريف والاصطلاح.
2 - جذور الكلاسيكية.
3 - بزوغ الكلاسيكية.
4 - بدايات الكلاسيكية الفرنسية (القرن السادس عشر).
5 - العصر الذهبيّ للكلاسيكية (مرحلة الازدهار).
6 - خصائص الكلاسيكية.
7 - العصر الذهبيّ للكلاسيكية (مرحلة الانتقال).
8 - وجهة النظر الإسلامية حول الكلاسيكية.
9 - لمحة عن بعض أعلام الكلاسيكية في الغرب.
1- التعريف والاصطلاح:
المذهب الكلاسيكيّ classicisme أول مذهب أدبيّ نشأ في أوربا في القرن السادس عشر بعد حركة البعث العلميّ، ويتجلى في بعث الآداب اليونانية واللاتينية القديمة ومحاولة محاكاتها، لما فيها من خصائص فنية وقيمٍ إنسانية، فقد أخذ العلماء يحللون هذه الآثار القديمة ليستنبطوا مبادئها وخصائصها التي ضمنت لها هذه المكانة العظيمة والاستمرارية المدهشة، وكان عملهم هذا إمّا بالتذوق أو بالتحليل المباشر، أو بما كتبه المنظرون القدماء أمثال أرسطو في كتابيه (الخطابة) و(الشعر)، وهوراس في قصيدته المطولة (فن الشعر).
أما لفظ (كلاسّيك) فهو مصطلح عائم المعنى، ورغم انتشاره لا يمكن ربطه بزمان ومكان معيّنين وخصائص محددة، لكنه عموماً يدل على كلِّ عملٍ جميل خضع للتطور والتكامل سنين طويلة حتى بلغ غاية الإتقان، وبعبارة أخرى هو كل عمل أجمعت العصور على جماليّته، ومن الملاحظ أن هذا التعريف يقود إلى كثير من الارتباك والتعارض، ولكن إذا أردنا أن نقارب المفهوم المنتشر قلنا: إن الكلاسيكية هي التعبير عن الأفكار العالية والعواطف الخالدة بأسلوب فنّي متقن، يتجلى فيه النظام والدقة والابتعاد عن كل ما هو بدائي وغير منضبطٍ بقواعد.
وأول ظهور لهذا الاصطلاح كان في القرن التاسع عشر، وتحديداً في إيطاليا عام 1818م، ثم انتشر في أقطار أوربا خلال مدة لا تزيد عن عشرين عاماً دراسةً ونقداً، أما ممارسةً فقد كان موجوداً منذ القرن السادس عشر، لكنْ دون استعمال كلمة (الكلاسيكيّة)، وفيما يتعلق باشتقاق المصطلح فإنه يعود إلى لفظ (Classe) بمعنى الصّنف أو الصفّ في المدرسة، وكان لفظ (كلاسيك) يعني الشيء المدرسيّ، أو يُطلق صفةً للأديب الذي تدرّس آثاره في الصفوف والكلّيات، كالأدباء الذين كان ينظر إليهم في القرن الثامن عشر على أنهم نماذج جديرة بأن يتمثلها الجيل الجديد.
ثم أصبحت كلمة (كلاسيك) تحمل معنى الأفضل والممتاز، فالأدباء النماذج كان ينظر إليهم بوصفهم منتمين إلى طبقة كبار الشعراء اليونانيين واللاتينيين، ثم تطوّرت دلالة كلمة (كلاسيك) فأصبحت عَلَماً على مذهب معيّن، له سماتٌ شاملة، لكنها تتيح وجود تنوعات واختلافات في داخلها، وكانت (مدام دوستايل) الناقدة الفرنسية الألمانية في كتابها: (من ألمانيا) من أوائل من أوضح سمات هذه المدرسة.
لقد كان المذهب الكلاسيكيّ في نشأته مرتبطاً بالأنظمة المالكة والطبقات الأرستوقراطية، لأنها كانت في أذواقها تنشد الأفضل والأجمل، من هنا كان الفرنسيُّ (فولتير) المتوفى عام 1778م يعلن انتماءه إلى عصر (لويس الرابع عشر 1661-1685)، وقد أكَّد في مؤلفاته أنَّ الحضارةَ الأرستوقراطيةَ لا بُدَّ من أن تستتبع نوعاً من الكلاسيكية بدرجة ما.
2- جذور الكلاسيكية:
تمتد جذور (الكلاسيكية) إلى القرن الثالث عشر في إيطاليا حيث لمع أدباء كبار منهم (دانتي) (القرن الثاني عشر والثالث عشر)، أشهر شعراء إيطاليا حينذاك، ومنهم الشاعر (بترارك) (القرن الرابع عشر) وكان أول من كتب باللغة الإيطالية، واشتهر بدعوته إلى إحياء التراث والتنقيب في آداب الأقدمين (اليونان واللاتين)، ومنهم الشاعر (بوكاشيو) (القرن الرابع عشر) الذي أتقن اللغة اليونانية وخبر آدابها، ولكنّه آثر الكتابة باللغة الإيطالية، فأغناها حين جعلها لغةً للأدب الرفيع، وألّف فيها كتابه (الديكاميرون) وهو مجموعة من الحكايات النثرية التي تصور المجتمع الإيطالي.
3- بزوغ الكلاسيكية:
بدأت بوادر المذهب الكلاسيكي بالظهور في القرن السادس عشر فيما بين عام 1515م وعام 1610م، ويطلق على هذه الفترة عادة اسم (عصر النهضة) الذي يدل على يقظة الآداب والفنون في القرن السادس عشر.
وكانت إرهاصات هذه النهضة واضحة تماماً حين أسفر القرنان الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين عن حركة أدبية مزدهرة، ورغم أن هذا الازدهار ما لبث أن مال إلى الانحدار في القرن الرابع عشر، إلا أنه مع الحروب الفرنسية الإيطالية حدث بين الطرفين احتكاك حضاري انتهى بالفرنسيين إلى العودة لدراسة النصوص اليونانية واللاتينية وفهمها على نحو أفضل.
ومنذ القرن السادس عشر بدأ مركز النشاط الكلاسيكي بالانتقال من إيطاليا إلى فرنسا، ورغم أن الكلاسيكية قد عمت أوربا كلها إلا أنها كانت في فرنسا أكثر وضوحاً وازدهاراً، وباللغة الفرنسية ظهرت أعمال أشهر الأدباء الكلاسيكيين.
وفي المقال اللاحق سنتناول بدايات الكلاسيكية الفرنسية من خلال استعراض نتاجها في الأدب الفرنسي كنموذج بارز للمذهب الكلاسيكي الأوربي، كان له سطوع شديد في أوربا بل في العالم أجمع.
خصائص الكلاسيكية
1- تقليد القدماء:
كان الأدباء قبل القرن السابع عشر ينظرون إلى قدماء اليونان واللاتين نظرة احترام، ويعدونهم أساتذة في الأجناس الأدبية كلها، هذا ما أكده (ماليرب) و(بلزاك) وكُتّابُ المأساة الكبار، وبلغ احترام القدماء والتعويل عليهم أقصى درجاته عند (راسين) و(لافونتين) و(بوالو)، أما (موليير) فقد كان أكثر استقلالاً، ويرى (بوالو) أن تكوين الملكة العقلية الصحيحة لا يتم إلاّ بدراسة القدماء، لأنهم كانوا أقرب إلى الطبيعة، وحللوها بمزيد من البساطة، واستطاعت مؤلفاتهم التي أنجزوها في حضارتهم القديمة أن تصمد أمام الكثير من التغيرات السياسية والأخلاقية والفنّية، لأنها تحتوي على الكونيّ والإنسانيّ، حتى إن (لافونتين) يقول: "إنك إذا اخترت طريقاً آخر غير طريق القدماء فسوف تضلّ"، فبتقليد القدماء تستطيع مؤلفاتنا الاستمرار بالحياة في الأجيال القادمة، وإذا تأملنا معظم موضوعات راسين وجدناها مستقاة من القديم.
2- العقلانية:
بالعقل نستطيع التمييز بين الحقيقي والمزيف، والنسبيّ والمطلق، والخاص والعام، والعقل هو الذي يمنعنا من أن ننساق وراء نزوات الخيال، ويبعدنا عن المبالغة في التعبير عن آلامنا وأفراحنا، والعقل أيضاً مرادفٌ للحسّ السليم تقريباً، فهو يعتمد في أحكامه على ما هو شاملٌ وبسيط في الطبيعة الإنسانية، من هنا غابت عن الأدب الكلاسيكي الغنائيةُ المعتمدةُ على الخيال والأحلام والعواطف القويّة.
3- الإتقان الفني:
لا بد للكاتب الكلاسيكي من أن يتقن فنه ويصقله إلى درجة قصوى، مع مراعاة البساطة وعدم التكلف، فلا مجال في الكلاسيكية إلى الخروج عن القواعد.
والجمال الفني يعني العمل الجادّ والإخلاص فيه ومراجعته بالتهذيب والتنقيح، دون تجاوز القواعد ودون الوقوع فيما يسيء إلى الموهبة، وفن التراجيديا الكلاسيكية التي تمسكت بنظرية الأجناس والوحدات الثّلاث إطاراً للإبداع أوضحُ مثالٍ على ذلك.
4- التعويل على الحقيقة:
وذلك بالاقتراب من الواقع والابتعاد عن نزوات الخيال، فالحقيقيّ وحده هو الجميل، وهو الطبيعيّ والممتع والمحبوب، والأدب الكلاسيكي سيكولوجي لأنه يهتم بداخل الإنسان، والغاية من هذه السيكولوجية تتجلَّى في البحث عن الملامح المشتركة التي يلتقي حولها البشر في كلّ العصور.
ومع ذلك لا ينفي الناقد (بوالو) الاهتمام بتصوير الطبيعة الخارجية تصويراً بديعاً، ولما كانَ هدف الشعر عنده ليس التثقيف والتعليم، بل الإمتاع، فالطبيعة وحدها هي الشيء الممتع، وكل مصطنعٍ مَقيت.
5- القيم الأخلاقية:
لا يُطْلَبُ الجمالُ الفنيُّ لذاته أو لتحقيق الإمتاع فقط، بل لا بد معه من مثالٍ أخلاقي وروحيّ يسمو بالإنسان إلى حال أفضل، فالجمال والخير صنوان لا يفترقان، لذلك يجب أن يجتمع الإنسانيُّ والأخلاقيُّ في النص الأدبي، والفصاحة هبة من الله تعالى يجب أن تستخدم في حث الإنسان على فعل الخير.
من هذا المنطلق عالج الكُتَّابُ الكلاسيكيون في أدبهم الأحوال الإنسانية كالحُبّ والبغض والهوى والغيرة والعقل والواجب والعاطفة والرياء، وبالتالي اتضح في الكلاسيكية اتجاه عام في الشعر والنثر على السواء يهدف إلى صياغة مثالٍ جماليٍّ وأخلاقي موحّد.
6- التعبير باللغة المحلية:
عزف رواد الكلاسيكية الأوائل عن الكتابة باللاتينية، وأصروا على الكتابة باللغة المحلية، وعملوا على إغنائها بالمفردات بطرائق مختلفة، حتى أصبحت لغة غنية قادرة على التعبير عن كل المقاصد.
ولكن هذه اللغة المحلية تختلف من كاتب إلى آخر، فلكل كاتب شخصيته اللغوية الخاصة. أما الأسلوب فقد تخلّص من النحو اللاتيني وأصبح يتحلى بالوضوح والبساطة مع التنقيح والتهذيب، لكنه لم يتدنَّ إلى المستوى العامّي.
7- الأدب غير الشخصيّ:
لا يعبر الأديب عن آرائه ومشاعره مباشرة، بل يتبع النهج التعليمي أو الدراميّ، حتى إن الذات تبدو كأنها غائبة. ويبقى التعبير من خارج الذات أو من اتحاد الذات بالموضوع، فشخوص المسرحية هي التي تتكلم وتعبر عن مقاصد الأديب بطريقة غير مباشرة، ومع ذلك فإنَّ الذات لا تغيب تماماً، بل قد تظهر من خلال الأشخاص، فكثيراً ما كانت أعمال (موليير) و(راسين) و(بوسوييه) و(كورنيي) تعبر عن ذواتهم.
8- الأدب الإنساني:
انطلق الأدباء من النفس الإنسانية واتجهوا إليها، فالملهاة راحت تصوّر مهازل المجتمع ونقائصه بأسلوبها الممتع بهدف حماية المجتمع وإصلاحه. وركز الشعر الغنائي على أحوال المجتمع مع إبداء شيءٍ من الاهتمام بالشؤون الفردية، وحظيت الخطابة بإقبال كبير من الجمهور، وكان لها أكبر الأثر فيه.
أما الحكاية والرواية فقد اقتربتا من المثالية والمعالجة النفسيّة وركزتا على القيم الأخلاقية. وقد اهتمت هذه الأنواع كلّها بالأحوال المشتركة والأخلاق العامة وابتعدت عن الأحوال شديدة الخصوصيّة أو النادرة، يقول (بيير جانيه): إن أدبنا الكلاسيكي أدبٌ إنساني مطلقاً، نشأ من الإنسانيّ وتوجّه لتلبية حاجات الإنسان.
[center]