لفتات حول اللغة الربانية التي كتبت بها المعلومات الوراثية
د نصر الله ابو طالب
استشاري أول بأمراض وزراعة الكلى
باحث في قضايا الكتاب المقدس وتاريخ اليهود
هاهنا استعرض مع القارئ بعض سمات المجلد الكبير الصغير الذي احتوى على خصائصنا الوراثية.. كبير إذ نحتاج الى ما يزيد على احد عشرة سنة لقراءة صفحاته المحتويه على ثلاثة بليون حرف هذا اذا قراءناه بسرعة عشرة أحرف بالثانية.. وهو مجلد صغير قد تضاءل حتى استحالت رؤيته.. كثيرة هي طبعاته، ففي كل مخلوق منه طبعة، ومن كل طبعة جاءت نسخ لاتحصى تعجز لغة الأرقام عن عدها، حتى احتوت كل خلية من خلايا الجسم منه – عدا الكريات الحمراء- على نسخة.. طبعاتهُ على كثرتها التي لا يحصيها الا خالقها مميزةُ لا تتكرر (إلا بالتوائم المتناظرة)! ومع هذا التنوع لا تختلف أي طبعة عن الأخرى بين أي فردين من الجنس البشري بغض النظر عن لونهما وأصلهما البشري الا في 0,1% أوفي حرف من كل ألف حرف.. وكفى بذلك الاختلاف الطفيف أن يكون مسئولا عن كل الفوارق الخلقية (فسيولوجية أو مرضية) بين كل أبناء آدم.. وأن يُثبت في نفس الوقت للبيض والسود أنهم جميعاً أبناء أب واحد ولا فرق.. كتبت المادة الوراثية (يُرمز لها بحض DNA) مثنى مثنى.. نسختان متقابلتان لكل فقرة (نسميها عاملاً أو جيناً وراثياً) من فقراتها، واحدة من الأب والأخرى من الأم.. وكل المادة الوراثية موزعة على 23 زوجاً متشابها من المجموعات المتقابلة نسمي كل فرد منها كروموسوما.. ورثنا 23 كروموسوما منها من كل واحد من أبوينا.. الحروف المستعملة هي أربع "قواعد" كيميائية رُمز لها الباحثون بالاحرف A C T Gالتي هي
مختصر لأسماء القواعد الأربع أدينين Adenine ب(A)، وجوانين Guanineب (G)، وثيامين Thymine ب(T)، وسيتوسين Cytosineب (C) تشترك كل ثلاثة منها (فكأنها أحرف) في كتابة كلمة.. فكلّ كلمات الكتاب أربعة وستون كلمة فقط.. كل كلمة ترمز لحمض أميني أو لأحد الأوامر الأساسية المتعلقة بنسخ المادة الوراثية أو طبعها.. و تنتظم الكلمات بالمئات الى الآلاف أو الملايين في كل فقرة (جين) من فقرات الكتاب الكثيرة التي لا نعرف لأكثرها وظيفة.. تنتظم في سلاسل طويلة من المادة الوراثية التي يرمز لها بحمض DNA لو تخيلتها قد فـُردت خيطاً رفيعا من الكتان لبلغ طوله ذلك الخيط مصنوعاُ من كل خلية 100 كم!
لمّا كانت البروتينات (وهي سلاسل مختلفة الترتيب من الأحماض الأمينية) هي أساس بناء أجسام الأحياء وأساس تنظيم عملها وتنظيم بقية مواد
الجسم الأخرى من الدهون والأملاح فإنّ المادة الوراثية
حُصرت في تشفير البروتينات، سواء منها البروتينات
المستخدمة في البناء أو تلك المستخدمة في تنظيم التفاعلات
الكيميائية بالجسم. وعلى هذا جاءت الأحماض الامينية ممثلة بالكلمات الثلاثية الأحرف، واصبح ترتيب كلمات المادة الوراثية مُحدِدا لترتيب الأحماض الأمينية ونوعية البروتين الذي سيتم تصنيعه من تلك الفقرة (الجين)..
وتحتوي المادة الوراثية بالانسان على ضخامتها على حوالي ثلاثين ألف عامل (جين) وراثي فقط.. مسئولة عن صنع ما يزيد على المائة ألف نوع من البروتينات.. فيصنع كل جين عددا من البروتينات.. ويتم تعدد البروتينات الناتجة عن طبع كل جين (فقرة من الـ DNA) عن طريق اختزال أجزاء من النسخة المطبوعة mRNA عنه والتي تم نقلها الى خارج نواة الخلية حيث تتم صناعة البروتينات.. وتسمى فواصل الجينات التي لا تترجم الى أحماض أمينية بالانتوناتIntrons ، بينما تسمى الفواصل التي تترجم الى احماض أمينية ولو في أحد البروتينات الناشئة عن الجين بالاكونات Exons.
ويشارك في تنظيم عملية ترجمة الجينات الى بروتينات عدد ضخم من الجينات والبروتينات الناشئة عنها.. يتم من خلال ذلك تمييز الخلايا والأنسجة المختلفة وتحديد اختصاصاتها الوظيفية بشكل آني دقيق..
هذه مقدمة مبسطة جداً عن كم هائل من المعلومات التي توفرت للباحثين، والتي هي مع ذلك ما زالت قاصرة جدا عن السماح باستيعاب بناء وعمل المادة الوراثية.. ولا مجال للحديث هنا عما عرف التفاصيل العلمية الدقيقة لتركيب المادة الوراثية وكيفية عملها، والذي يعنيني هنا هو التذكير بأنّ هذا خلق متقن دقيق ومحبوك.. ولا يكاد يستطيع الباحث لملمة شئ من الأدلة الوفيرة التي لا تحصر على كمال الخلق ودقة الصنع.. وذلك لا يتنافى مع خلق الاتسان ضعيفا.. فضعفه أمرٌ مقصود في حد ذاته.. لا يحدث كظواهر سلبية، بل تحكم هذا الضعف وترتب له جينات وراثية وسلسلة هائلة من العمليات الدقيقة الهادفة.. إنه الإحكام وDNA صرحه الأساسي.. فليس هنالك مكان للحديث عن نواقص أو عيوب بلغة الخلق المتمثلة أمامنا في حمضDNA .. بل هي الحكمة البالغة في ايجاد هذا الخلق يتعاقب على الأرض في دورة الموت والحياة ليعقبها الحساب والجزاء..
ومن هنا فلا يصح أن يتبادر لذهن القارئ أننا نتحدث عن مواضع ضعف بلغة الوراثة، وأين النقص منها وقد أتقن الله كل خلقه وهدى.. وانما استعرض ظواهر وخواطر متعلقة بها..
فمن هذه الظواهر:
- من المحير للباحثين أن معظم المادة الوراثية تبدو وكأنّها عاطلة عن العمل، ولايساهم من المادة الوراثية كجينات وراثية أو جينات منظمة لعمل المادة الوراثية سوى نسبة لا تصل الى خمسة بالمائة من مجموع المادة الوراثية..
فعجيب هو سر تلك الفقرات الطويلة الهائلة من المادة الوراثية التي لا يعرف لوجودها تعليل ولا وظيفة حتى تجرأ بع الباحثين بتسميتها بالسكراب والصحارئ والخرابات.. ويعلم العقلاء منهم والمؤمنون بأنّ لها حكمة خفية نجهلها,,
هنالك أيضا عدد من الظواهر البارزة ، منها:
- ظاهرة غياب التصنيف: لو أنّ أحدنا أراد أن يؤلف كتابا عن أي موضوع لصنف ما يكتب الى فصول يجمع الى كل فصل جوانبه المشتركة (كالجينات) وظيفيا أو على الأقل المتقاربة تركيبا.. كل ذلك ليسهل على القارئ البشري لملمة الموضوع والاحاطة النسبيه به.. لكنّ اللغة الربانية التي سُطرت بها المادة الوراثية لم تُـنظم على هذا الأساس.. والأمثلة لا تكاد أن تحصر هاهنا.. فجزئ الليف الرابع (الكولاجين الرابع) يتكون من ستة جزيئات، كل منها يصنعه جين وراثي هو أبعد ما يكون موقعاً عن الآخر.. المسافات التي بينها تعتبر بحق هائلة عندما تقاس بقياسات ذلك العالم المتناهي في الدقة.. وحتى يستوعب القارئ ذلك أذكر له تشبيه الباحثين لعملية العثور على جين بعملية اكتشاف موقع كورة قدم مخفية في أحد الطوابق الأرضية في عمارة ما بالولايات المتحدة الأمريكية.. وعلى القارئ أن يتخيل أن أحدنا لا يستطيع أن يحافظ على لفة خيط من عدة أمتار يفتحها ويلفها، إذ سرعان ما "تتشعبط" عليه، فكيف بمائة كم من خيط الخياطة الرفيع تلف وتفك ملايين المرات باليوم ضمن نواة الخلية التي لن يزيد حجمها عن دولاب صغير.. وتتناغم فقرات منه متباعدة في عمل مشترك يصل في بعض البروتينات كبروتينات الهموجلوبين الى طبع عشرات الترليونات أو آلاف البلايين من الجزيئات البروتينية بالثانية الواحدة.. أعظم أيها القارئ بملك الله وقدرته!
فما الذي إذاً يجعل هذه الجينات المتخصصة في بناء جزئ بروتيني محدد أن تتداعى آنياً من مواقعها المتباعدة من كروموسومات مختلفة لصناعة ذلك الجزيء البروتيني.. وكيف يتم استيعاب الأعداد الهائلة من المجموعات المتشتتة من الجينات استيعابها زماناً ومكانا لتنطلق فريقا واحدا متآزرا..
إنّ التصنيف والتبويب أساس في كل انشاءات البشر لمساعدة العقول البشرية على الألمام والأستيعاب وتجنب أخطاء السهو والنسيان.. لكن الخالق أغنى مَن يكون عن التذكير أو الحاجة الى وسائلة بما فيها من تصنيف أو تبويب.. وللخالق في توزيع المادة الوراثية على ما هي عليه حكمةٌ لا شك في وجودها وإن جهلها البشر وعجزوا عن اكتشافها..
ويجد القارئ للقرآن الكريم عرضاً لقضايا عديدة في مواضع متعددة من المصحف.. في كل موضع به طرح متجدد بلون أو تفصيل اضافي.. تتجدد فيه روح القارئ ووجدانه اثناء التلاوة، فالهدف ليس حشواً لمعلومات بل تربية لوجدان وروح وقلب.. لم يتم في عرض قضاياه كآيات الجهاد أو الأحكام مثلا الحرص على جمعها الى مواضع واحدة من المصحف، بل توزعت آيات الكتاب في مجموعات جميلة (السور) مؤثرة، لكل واحدة حلاوة تميزها، تحكم توزيعها عواملُ لا نعلمها يبدو من بينها وحدة النسق والنظم والموضوع أحيانا..
- ظاهرة التكرار: حيث تشكل نسبة المادة الوراثية DNA المتواجدة مرة واحدة Single-copy DNA أو في عدد محدود من المرات (النسخ) نسبة 45% فقط من مجموع المادة الوراثية DNA، بينما تأتي بقية المادة الوراثية 55% بشكل مجموعات متكررة إما ضمن محموعات (تشكل 10% من المادة الوراثية) أو بشكل موزّع على كل الكروموسومات (تشكل 45% من مجموع المادة الوراثية) يصل تكرار بعضها الى عدة آلاف من المرات.. وطويلة أحيانا وقصيرة أحيانا أخرى.. لكنها متكررة في نسق يعجز الانسان عن قراءته أو فهمه.. ما أظنها إلا تسابيح متكررة.. فالتكرار بل الأصح عند القراءة والذكر والتلاوة استخدام لفظ الترداد الذي هو قلب الذكر والعبادة والتسبيح.. فهؤلاء المؤمنون على مر الزمن وتلك الملائكة لا تسأم تردد عبارات الذكر ليلا ونهارا.. تلك العبادة ذكرا ودعاء طبيعتها الترداد.. ولا يردد ولا يكرر ذكر ولا دعاء الا لرب العالمين.. ولا يشك من لديه ذرة من عقل أنّ ثمة هنالك حكمة بالغة من مثل هذا التكرار الكبير في الخطة الوراثية المكتوبة مكررة داخل كل خلية من خلايا الجسم..
وقديما ضربو المثل بمطبعة محتوية على قوالب حروف كثيرة، هل يمكنها بسبب هزات أرضية أو غيرها مهما تكررت أن تترتب في قصيدة أو قصة ذات موضوع أو مغزى محدد.. فإذا رفض العقل انتظام عدة مئات من الحروف صدفةً فأنّى له أن يقبل بانتظام ثلاثة بلايين حرف لترسم مراحل وتفاصيل خلق الفرد البشري.. ولاشك بأنّ الأجزاء المتكررة تكررت لحكمة بالغة لم يتشرف الانسان بعد بفهمها..
يبقى هنا مرة اخرى الاشارة الى بروز ظاهرة التكرار باللغة الربانية بالقرآن : " الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربَّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فماله من هاد"، بل انّها ظاهرة أشد بروزا بالتوراة والكتاب المقدس، فعلى الرغم من ثبات التحريف الشديد به إلا أنّ به أجزاء يبدو أنّها أصيلة ومن الوحي الرباني، وقد ظهر التكرار بالتوراة حتى سُمِّي أحد أسفارها الخمسة بالتثنية لتكراره وتثنيته الأحكام والآيات مرة أخرى، ونسب الى الأنبياء تعاليم وذكر هو في الواقع تأكيد وتكرار لتعاليم وذكر من سبقهم.. فالدعوة واحدة والمحتوى واضح وبسيط لكن النفوس البشرية تحتاج الذكر مكرراً..
- ظاهرة النسخ مع الإبقاء على الفقرات المنسوخة، فتُقرأ مجيئاً وذهابا في كل مرة يتم فيها طبع نسخة جديدة من حمض DNA، فيرى الباحثون عدداً من الجينات الوراثية منسوخاً، ويلحقون باسمائها الإضافة المعتادة Psuedo- التي تعني غير صحيح أو جينا منسوخاً، فهي جينات يقوم بعملها جينات أخرى.. والجينات المنسوخة محتفظ بها ضمن السلسلة الوراثية وتسنسخ كغيرها من الجينات في كل عملية انقسام خلوي بالجسم..
- ظاهرة المحكم والمتشابه: فهناك أجزاء من المادة الوارثية تم التعرف على وظائفها وعواقب اختلالها، وهنالك أجزاء كثيرة لم يتم بعد التعرف على وظائفها الا أنّ الأمر لا يبدو أنّه سيكون متعسراً، لكنّ الأجزاء الأكبر من المادة الوراثية تبدو عسيرة الفهم، غامضة الوظيفة والغاية، متشابهة التركيب.. ولا يتوقع أن يفهم كنهها البشر.. لكن العقلاء يؤمنون بأن حكمة بالغة تقف خلف صنعها.. وفي القرآن المحكم واضح الدلالة والمعنى والمتشابه..
قال الله تعالى:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(سورة آل عمران).
- ظاهرة التباين في حجم الجينات: هنالك تباين شديد بين الجينات من حيث تركيبها وأطوالها.
- ظاهرة الافتتاح والاختتام: تتفتتح الجينات بسلاسل محدودة من القواعد مهمتها تنظيم عمل الجين وتيسير البدء يترجمته أو طبعه..
- ظاهرة وحدة اللغة والخلق والخالق: وهي متجلية بشكل بارز في أن هذه القواعد بنفس شفرتها موجودة في كل الكائنات الحية نباتية وحيوانية، وإن كانت الشفرة المستخدمة في جسيمات الكائنات بما فيها الانسان مختلفة بعض الشئ.. والأكثر من ذلك أن معظم هذه الجينات مشتركة بين المخلوقات المختلفة بنسب متفاوتة.. وفي ذلك دلالة بينة على وحدة الصانع والمدبر.. ولو شاء الله لأنشاء بكل كائن شفرة، ولجعل الجينات تختلف بين مخلوقاته حتى عند قيامها بنفس المهمة.. لقد كانت وحدة الخلق على مر الزمان دليل الوحدانية حتى جاء داروين فاستنتج منها التطور.. ولا تطور بنّاء إلا بإرادة، ولا إرادة في الخلق إلا للخالق.. وذلك شأن لا يعلمه إلا هو إن كان قد أنشأ المخلوقات بعضها من بعض، لكننا في شأن الإنسان نؤمن بخلقه المباشر فبذلك جاء الوحي المؤيد بالدليل والمعجزة..
هذا المقال هو عرض لمجرد خواطر مبدئية بنيت على معلومات عامة عن المادة الوراثية، ولم يكن بها محاولة قراءة مباشرة لتسلسل القواعد وترتيباتها ضمن الجينات أو ضمن السلسلة الوراثية عامة وأرجعوا أن تجد بين علماء الوراثة المسلمين من يبني عليه محاولات قراءة ايمانية لقواعد المادة الوراثية والجينات التي تشكلها لعلنا نطلع على آفاق وآيات ربانية جديدة ونفهم به ظواهر الشبه بآيات الكتاب الحكيم.
الموضوع مرفق بالصور من خلال هذا الرابط :[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]